قضية كون معاوية رضي الله عنه من مسلمى الفتح أو أنه من الطلقاء ..
ولما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم قدوتنا في ديننا و هم حملة الكتاب الإلهي و السنة المحمدية ، الذين حملوا عنهم أماناتهم حتى وصلت إلينا ، فإن من حق هذه الأمانات على أمثالنا أن ندرأ عن سيرتهم كل ما ألصق بهم من إفك ظلماً و عدوانا .. حتى تكون صورتهم التي تعرض على أنظار الناس هي الصورة النقية الصادقة التي كانوا عليها ، فنحسن القدوة بهم و تطمئن النفوس إلى الخير الذي ساقه الله للبشر على أيديهم ..
و قد اعتبر في التشريع الإسلامي أن الطعن فيهم طعنٌ في الدين الذي هم ورائه . قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (1/18) .
و تشويه سيرتهم تشويه للأمانة التي حملوها و تشكيك في جميع الأسس التي قام عليها كيان التشريع في هذه الملة الحنيفية السمحة .
قلت : يلهث الكثير ممن استهوته الشياطين بالطعن في معاوية رضي الله عنه ، وإن لم يطعن قلل من شأنه بأنه من مسلمة الفتح وأنه من الطلقاء إلى غيرها من الأمور .. حتى وصل بالبعض منهم إلى أن يتوقف في شأنه و يعرضه على ميزان الجرح والتعديل .. ناسياً أو متناسياً أنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الأمة قد أجمعت على تعديلهم دون استثناء من لابس الفتن منهم و من قعد .. و لم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة . انظر حول عدالة الصحابة : الاستيعاب لابن عبد البر (1/19) و فتح المغيث (3/103) و شرح الألفية للعراقي (3/13-14) والإصابة (1/9) و مقدمة ابن الصلاح (ص 147) والباعث الحثيث (ص 181-182) وشرح النووي على صحيح مسلم (15/149) والتقريب للنووي (2/214) والمستصفى للغزالي (ص 189-190 ) وفي غيرها من الكتب .
ذكر النووي في شرح صحيح مسلم (8/231) و ابن القيم في زاد المعاد (2/126) أن معاوية رضي الله عنه من مسلمة الفتح ، أي أنه أسلم سنة ( 8هـ ) ، في حين ذكر أبو نعيم الأصبهاني كما في معرفة الصحابة (5/2496) و الذهبي كما في تاريخ الإسلام - عهد معاوية - ( ص 308) أنه أسلم قبيل الفتح .
وقال قوّام السنة في سير السلف الصالحين ( 2/ 663 ) رواية عن معاوية رضي الله عنه أنه يقول فيها : أسلمت عام القضية ، لقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقبل إسلامي ، وعام القضية هو العام الذي صُد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت ( عام 6 هـ ) . وانظر هذا الخبر في تاريخ الطبري ( 5 / 328 ) والبداية والنهاية لابن كثير ( 8 / 21 ) والاستيعاب لابن عبد البر ( 3 / 395 ) .
وقال الإمام أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة ( 5 / 2496 ) في ترجمة معاوية رضي الله عنه : كان من الكتبة الحسبة الفصحة ، أسلم قبيل الفتح ، وقيل عام القضية وهو ابن ثمان عشرة ، وعده ابن عباس من الفقهاء ، قال : كان فقيهاً ..
ومرد الاختلاف بين المصادر حول تاريخ إسلام معاوية رضي الله عنه يعود إلى كون معاوية كان يخفي إسلامه ، كما ذكر ذلك ابن سعد في الطبقات (1/131) ، وهو ما جزم به الذهبي ، حيث قال : أسلم قبل أبيه في عمرة القضاء – أي في سنة ( 7هـ ) – وبقي يخاف من الخروج إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبيه .. وأظهر إسلامه عام الفتح . انظر : تاريخ الإسلام – عهد معاوية – ( ص 308) .
وبعد هذا هل يبقى مطعن في معاوية رضي الله عنه من كونه من مسلمة الفتح – وليس في ذلك مطعن - وإن سلمنا بأنه من مسلمة الفتح ؛ فهل هذا يقلل من شأن صحبته رضي الله عنه ؟!
وهذا تفصيل في أمر طبقات الصحابة رضوان الله عليهم .. وقد اخترت تقسيم الإمام الحاكم ، لأنه المشهور عند العلماء في عدد طبقات الصحابة من أنها اثنتا عشرة طبقة ، وهو الذي جرى عليه أكثر الذين كتبوا في طبقات الصحابة رضي الله عنهم . انظر تعليق أحمد شاكر على الباعث الحثيث ( ص 184 ) ، وقد قسم الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث (ص 22-24 ) ، أن الصحابة على مراتب :
الطبقة الأولى : قوم أسلموا بمكة ، مثل أبي بكر و عمر و عثمان و علي و غيرهم رضي الله عنهم .
الطبقة الثانية : أصحاب دار الندوة – و هي دار قصي بن كلاب – و ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أسلم وأظهر إسلامه ، حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دار الندوة فبايعه جماعة من أهل مكة . منهم : سعيد بن زيد و سعد بن أبي وقاص .
الطبقة الثالثة : المهاجرة إلى الحبشة . منهم : حاطب بن عمر بن عبد شمس و سهيل بن بيضاء و جعفر بن أبي طالب .
الطبقة الرابعة : الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم عند العقبة . منهم : رافع بن مالك و عبادة بن الصامت ، وأسعد بن زرارة .
الطبقة الخامسة : أصحاب العقبة الثانية وأكثرهم من الأنصار – و هذه العبارة فيها نظر ؛ لأنه من المعلوم والثابت أنه لم يشترك مع أصحاب العقبة الأولى والثانية أحد من غير الأنصار ، اللهم إلا العباس فقد حضر ليستوثق للنبي صلى الله عليه وسلم - .
الطبقة السادسة : أول المهاجرين الذين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو بقباء ، قبل أن يدخلوا المدينة و يبني المسجد . منهم : أبو سلمة بن عبد الأسد و عامر بن ربيعة .
الطبقة السابعة : أهل بدر الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم : لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . البخاري (2/170-171) ، ومنهم : حاطب بن أبي بلتعة ، و المقداد بن الأسود و الحباب بن المنذر .
الطبقة الثامنة : المهاجرة الذين هاجروا بين بدر والحديبية . منهم المغيرة بن شعبة .
الطبقة التاسعة : أهل بيعة الرضوان ، الذين أنزل الله تعالى فيهم {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }[الفتح/18] ، و منهم : سلمة بن الأكوع وابن عمر و سنان بن أبي سنان .
الطبقة العاشرة : المهاجرة بين الحديبية والفتح ، منهم : خالد بن الوليد و عمرو بن العاص .
الطبقة الحادية عشرة : هم الذين أسلموا يوم الفتح ، منهم : أبو سفيان بن حرب و عتاب بن أسيد وحكيم بن حزام و بديل بن ورقاء .
الطبقة الثانية عشرة : صبيان وأطفال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ، و في حجة الوداع و غيرهما ، و عدادهم من الصحابة . منهم : السائب بن يزيد و عبد الله بن ثعلبة ، و أبو الطفيل بن عامر بن واثلة ، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله .
و وجهة الحاكم فيما ذهب إليه : أنه نظر إلى أمر زائد على أصل الصحبة ، و قد لاحظ اعتبارات أخرى كالسبق إلى الإسلام والغزو وما إلى ذلك ..
ومن خلال ما سبق ذكره ، نجد أن معاوية رضي الله عنه يدخل ضمن الطبقة العاشرة ، هذا إذا أخذنا بأنه أسلم بعد الحديبية ، أما إذا أخذنا بما هو مشهور من أنه أسلم يوم الفتح فإنه من الطبقة الحادية عشرة ، وفي كل خير ، فقد فازوا بشرف الصحبة وأنعم بها من خُلة ..
كما أن معاوية رضي الله عنه من الذين نالوا شرف الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومرد ذلك إلى ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ، لكونه صهره وكاتبه صلى الله عليه وسلم ، هذا وقد روى معاوية عنه ( مائة وثلاثة وستين حديثاً ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قاله ابن حزم في أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد منهم من العدد ( ص55 ) .
اتفق له البخاري ومسلم على أربعة أحاديث ، وانفرد البخاري بأربعة ومسلم بخمسة . السير للذهبي ( 3 / 162 ) . مرويات خلافة معاوية للدكتور خالد الغيث ( ص 33 ) .
حدث عنه من الصحابة : عبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وجرير بن عبد الله والنعمان بن بشير ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ووائل بن حجر وعبد الله بن ال***ر .. ومن التابعين : سعيد بن المسيب وعلقمة بن وقاص وعروة بن ال***ر ومحمد بن الحنفية وعيسى بن طلحة وحميد بن عبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وآخرين . انظر معرفة الصحابة لابن نعيم ( 5 / 2497 – 2498 ) .