ومن الشبهات قولهم بان الصحابة غيروا في الصلاة يقول أحدهم ((
قال أنس بن مالك ما عرفت شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الصلاة، قال أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها.
وقال الزهري دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت ما يبكيك فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت. وحتى لا يتوهم أحد أن التابعين هم الذين غيروا ما غيروا بعد تلك الفتن والحروب، أود ان أذكر بأن أول من غير سنة الرسول في الصلاة هو خليفة المسلمين عثمان بن عفان وكذلك أم المؤمنين عائشة، فقد أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بمنى ركعتين وأبوبكر بعده وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدراً من خلافته ثم أن عثمان صلى بعد أربعاً.
كما اخرج مسلم في صحيحه قال الزهري قلت لعروة ما بال عائشة تتم الصلاة في السفر؟ قال أنها تأولت كما تأول عثمان ))
////////////////////////////////////
فالرد أن هذا الطاعن خلط بين حديثين وجعلهما حديثاً واحداً فالحديث الأول رواه مهدي عن غيلان عن أنس قال (( م
ا أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيل: الصلاة، قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها ))
والحديث الثاني عن عثمان بن أبي روّاد أخي عبد العزيز قال: ((
سمعت الزهري يقول: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت ))
أما بالنسبة لحديث أنس بن مالك الأول فإنه قصد من قوله (
أليس صنعتم ما صنعتم فيها ) أنهم يؤخرونها حتى يخرج وقتها وقد كان هذا في زمن الحجاج وليس زمن الصحابة كما زعم، والذي خاطب أنس في هذا الحديث يقال له أبو رافع ذكره أحمد بن حنبل في روايته لهذا الحديث عن عثمان بن سعد عن أنس فذكر نحوه ((
فقال أبو رافع: يا أبا حمزة ولاالصلاة؟ فقال له أنس: قد علمتم ما صنع الحجاج في الصلاة ))
وروى بن سعد في الطبقات سبب قول أنس هذا القول فأخرج في ترجمة أنس من طريق عبد الرحمن بن العريان الحارثي سمعت ثابتاً البناني قال ((
كنا مع أنس بن مالك فأخّر الحجاج الصلاة فقام أنس يريد أن يكلمه فنهاه إخوانه شفقةً عليه منه، فخرج فركب دابته فقال في مسيرة ذلك: والله ما أعرف شيئاً مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا شهادة أن لا إله إلا الله فقال رجل: فالصلاة يا أبا حمزة؟ فقال: قد جعلتم الظهر عند المغرب، أفتلك كانت صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وأخرجه ابن أبي عمر في مسنده من طريق حماد بن ثابت مختصراً))
أما حديث أنس الآخر الذي رواه الزهري فكان في إمارة الحجاج على العراق أيضاً، وقد قدم أنس لدمشق لكي يشكوا الحجاج للخليفة وهو إذ ذاك الوليد بن عبد الملك، أما المراد بقول أنس (( لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وقد ضيعت )) أي بتأخيرها عن وقتها فقد صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها لما رواه عبدالرزاق عن أبي جريح عن عطاء قال (( أخَّر الوليد الجمعة حتى أمسى فجئت وصليت الظهر قبل أن أجلس ثم صليت العصر وأنا جالس إيماء وهو يخطب ))وما رواه أبو نعيم شيخ البخاري في كتاب الصلاة من طريق أبي بكربن عتبة قال ((
صليت إلى جنب أبي جحيفة فمسّى الحجاج بالصلاة فقام أبو جحيفة فصلى، ومن طريق ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج فلما أخّر الصلاة ترك أن يشهدها معه )) وأما إطلاق أنس فلا يفهم منه أن هذا موجوداً في جميع بلاد الإسلام بل هو محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة، وإلا فإنه قدم المدينة فقال: ما أنكرت شيئاً إلا انكم لا تقيمون الصفوف والسبب فيه أنه قدم المدينة وعمر بن عبد العزيز أميرها حينئذ )).
أما قوله عن عثمان وعائشة في أنهما غيّرا في الصلاة فأقول: الصلاة المقصودة هنا هي في باب السفر هل تقصر أم تتم وهذا الأمر فيه خلاف بين أهل العلم لمن له أدنى إلمام بالفقه وقد روي الخلاف بين الصحابة أيضاً في ذلك فروي عن عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم الإتمام في السفر وهو قول جمهور الصحابة والتابعين بل قد روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتم في السفر ويقصر وسأل ابن عباس رجلٌ فقال: كنت أتم الصلاة في السفر فلم يأمره بالإعادة وقد جاءت السنة الدالة على أن القصر رخصة في السفر وليس عزيمة لقوله تعالى {
فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ( النساء 101)
فقد أخرج مسلمٌ في صحيحه عن يعلى بن أمية قال ((
قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد أمن الناس فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك. فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ))
واحتج الشافعي على عدم الوجوب بأن المسافر إذا دخل في صلاة المقيم صلّى أربعاً بالاتفاق ولو كان فرضه القصر لم يأتم مسافر بمقيم وأما إذا احتج هذا الطاعن بقول ابن مسعود بالحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن زيد قال ((
صلّى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنىً أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر رضي الله عنه ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان ))
فأما قول ابن مسعود (
فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبِّلتان ) فـ( من ) هنا للبدلية مثل قوله تعالى { أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة } وهذا يدل على أنه كان يرى الإتمام جائزاً وإلا لما كان له حظ من الأربع ولا من غيرها فإنها تكون فاسدة كلها وإنما استرجع ابن مسعود لما وقع عنده من مخالفة الأولى ويؤيده ما روى أبو داود ((
أن ابن مسعود صلى أربعاً فقيل له (( عبت على عثمان ثم صليت أربعاً. فقال: الخلاف شر )) ((
وفي رواية البيهقي ( إني لأكره الخلاف ) ولأحمد من حديث أبي ذر مثل الأول.
وهذا يدل على أنه لم يكن يعتقد أن القصر واجب كما قال الحنيفية ووافقهم القاضي اسماعيل من المالكية وهي رواية عن مالك وعن أحمد. قال ابن قدامة: المشهور عن أحمد أنه على الاختيار والقصر عنده أفضل وهو قول جمهور الأصحاب والتابعين )) وأما إذا استدل أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها حينما قالت (
الصلاة أول ما فرضت ركعتين.....) الحديث، وقول عائشة ( فرضت ) أي قدرت وأدل دليل على تعيين تأويل حديث عائشة هذا كونها كانت تتم في السفر.
ومن هنا نعلم أن القصر في السفر هو رخصة من الله والإنسان مخير بين الأخذ به أو تركه كسائر الرخص ونعلم أيضاً ضحالة تفكير هذا الطاعن الذي زعم أن الصحابة غيّروا في الصلاة فليت شعري كأن الصحابة غيروا صلاة الصبح فصلّوها أربعا! أو قصروا صلاة المغرب فجعلوها ركعة!!؟
ونأتي الآن إلى تأويل عثمان وعائشة رضي الله عنهما فقد ذكر بعض أهل العلم ((
أنهما كانا يريان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما قصر لأنه أخذ بالأيسر على ذلك لأمته فأخذا على أنفسهما بالشدة )).
وعن الزهري قال ((
أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عامئذٍ فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع ))
وقال ابن حجر في الفتح (( أن سبب إتمام عثمان أنه كان يرى القصر مختصاً بمن كان شاخصاً سائراً، وأما من أقام في مكان في أثناء سفره فله حكم المقيم فيتم )) ثم قال ابن حجر ((
ولا مانع عندي أن يكون هذا أصل سبب الإتمام، وليس بمعارض للوجه الذي اخترته بل يقويه من حيث أن حالة الإقامة في أثناء السفر أقرب إلى قياس الإقامة المطلقة عليها بخلاف السائر وهذا ما أدى إليه اجتهاد عثمان )).
وأما عائشة فقد جاء عنها سبب الإتمام صريحاً، وهو فيما أخرجه البيهقي من طريق هشام بن عروة عن أبيه (
أنها كانت تصلي في السفر أربعاً فقيل لها: لو صليت ركعتين. فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق عليّ ) إسناده صحيح وهو دالٌ على أنها تأولت أن القصر رخصة، وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل ))